فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما كان من رسم بهذا الخزي أخسر الناس صفقة أنتج وصفه قوله تعالى: {أولئك} أي الأباعد الأباغض {في ضلال مبين} أي واضح في نفسه موضح أمره لكل أحد، فالآية من الاحتباك: ذكر أولًا الشرح والنور دليلًا على حذف ضده ثانيًا، وثانيًا الويل للقاسي والضلال دليلًا على حذف ضده أولًا- روى البيهقي في الشعب والبغوي من طريق الثعلبي والحكيم الترمذي من وجه آخر عن ابن مسعود رضى الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية، قال: فقلنا: يا رسول الله! كيف انشراح صدورهم؟ قال: إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح قلنا: يا رسول الله؟ فما علاقة ذلك؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزول الموت» وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري: والنور الذي من قبله سبحانه نور اللوائح بنجوم العلم، ثم نور اللوامع ببيان الفهم، ثم نور المحاضرة بزوائد اليقين، ثم نور المكاشفة بتجلي الصفات، ثم نور المشاهدة بظهور الذات، ثم أنوار الصمدية بحقائق التوحيد، فعند ذلك لا وجد ولا قصد، ولا قرب ولا بعد، كلا بل هو الله الواحد القهار، وذلك كما قيل: المؤمن بقوة عقله يوجب استقلاله بعلمه إلى أن يبدو ومنه كمال تمكنه من وقادة بصيرته، ثم إذا بدا له لائحة من سلطان المعارف تصير تلك الأنوار مقمرة، فإذا بدت أنوار التوحيد استهلكت تلك الجملة، فلما استبان الصبح أدرج ضوءه بأنواره أنوار تلك الكواكب.
ولما كان من المستبعد جدًّا أن يقسو قلب من ذكر الله، بينه الله وصوره في أعظم الذكر فإنه كان للذين آمنوا هدى وشفاء، وللذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وفي أبصارهم عمى، فقال مفخمًا للمنزل بجعل الاسم الأعظم مبتدأ وبناء الكلام عليه: {الله} أي الفعال لما يريد الذي له مجامع العظمة والإحاطة بصفات الكمال {نزّل} أي بالتدريج للتدريب وللجواب عن كل شبهة {أحسن الحديث} وأعظم الذكر، ولولا أنه هو الذي نزله لما كان الأحسن، ولقدر- ولو يومًا واحدًا- على الإتيان بشيء من مثله، وأبدل من {أحسن}.
قوله: {كتابًا} أي جامعًا لكل خير {متشابهًا} أي في البلاغة المعجزة والموعظة الحسنة، لا تفاوت فيه أصلًا في لفظ ولا معنى، مع كونه نزل مفرقًا في نيف وعشرين سنة، وأما كلام الناس فلابد فيه من التفاوت وإن طال الزمان في التهذيب سواء اتحد زمانه أو لا، والاختلاف في المختلف في الزمان أكثر، ولم يقل: مشتبهًا، لئلا يظن أنه كله غير واضح الدلالة لا يمدح به.
ولما كان مفصلًا إلى سور وآيات وجمل، وصفه بالجمع في قوله: {مثاني} جمع مثنى مفعل من التثنية بمعنى التكرير أي تثنى فيه القصص والمواعظ والأحكام والحكم، مختلفة البيان في وجوه من الحكم، متفاوتة الطرق في وضوح الدلالات، من غير اختلاف أصلًا في أصل المعنى، ولا يمل من تكراره، وترداد قراءته وتأمله واعتباره، مع أن جميع ما فيه أزواج من الشيء وضده: المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، والرحمة العامة والرحمة الخاصة، والجنة والنار، والنعيم والشقاء والضلال والهدى، والسراء والضراء، والبشارة والنذارة، فلا ترتب على شيء من ذلك جزاء صريحًا إلا ثني بإفهام ما لضده تلويحًا، فكان مذكورًا مرتين، ومرغبًا فيه أو مرهبًا منه كرتين، ويجوز أن يكون التقدير: متشابهة مثانيه، فيكون نصبه على التمييز، وفائدة التكرير أن النفوس أنفر شيء عن حديث الوعظ والنصيحة، فما لم يكرر عليها عودًا على بدء لم يرسخ عندها ولم يعمل عمله، ومن ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرر قوله ثلاث مرات فأكثر.
ولما كان التكرار يمل، ذكر أن من خصائص هذا الكتاب أنه يطرب مع التكرار، ويزداد حلاوة ولو ثنى آناء الليل وأطراف النهار، فقال: {تقشعر} أي تهتز وتتجمع وتتقبض تقبضًا شديدًا، من القشع وهو الأديم اليابس، وزيد حرفًا لزيادة المعنى، واختير حرف التكرير إشارة إلى المبالغة فيه، وكونه حرف التطوير أشد للمناسبة {منه جلود} أي ظواهر أجسام {الذين يخشون} أي يخافون خوفًا شديدًا ويلتذون لذة توجب إجلالًا وهيبة، فيكون ذلك سبب ذلك، وزاد في مدحهم بأنهم يخافون المحسن، فهم عند ذكر أوصاف الجلال أشد خوفًا، فلذلك لفت القول إلى وصف الإحسان فقال: {ربهم} أي المربي لهم والمحسن إليهم لاهتزاز قلوبهم، روى الطبراني عن العباس رضى الله عنهان النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تحاتت خطاياه» وروي عن ابن عمر- رضى الله عنهما- أنه مر برجل من أهل العراق ساقط، قال: فما بال هذا؟ قال: إنه إذا قرئ عليه القرآن وسمع ذكر الله سقط، قال ابن عمر- رضى الله عنهما: إنا لنخشى الله وما نسقط وإن الشيطان ليدخل في جوف أحدهم، ما كان هذا صنيع أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم، {ثم تلين} أي تمتد وتنعم، وقدم ما صرح فيه بالاقشعرار الذي يلزمه اليبس، وأخر القلوب إبعادًا لها عما قد يفهم يبسًا فيوهم قسوة فقال: {جلودهم} لتراجعهم بعد برهة إلى الرجاء وإن اشتدت صلابتها {وقلوبهم} وذكره لتجدد لين القلوب مع الجلود دال على تقدير اقشعرارها معها من شدة الخشية فإن الخشية لا تكون إلا في القلب، وكان سر حذف التصريح بذلك تنزيههًا عن ذكر ما قد يفهم القسوة.
ولما كان القلب شديد الاضطراب والتقلب، دل على حفظه له بنافذ أمره وباهر عظمته بالتعدية بإلى ليكون المعنى: ساكنة مطمئنة {إلى ذكر الله} أي ذي الجلال والإكرام، فإن الأصل في ذكره الرجاء لأن رحمته سبقت غضبه، وأظهر موضع الإضمار لأحسن الحديث لئلا يوهم أن الضمير للرب، فيكون شبهة لأهل الاتحاد أو غيرهم من أرباب البدع، ولم يقل: إلى الحديث أو الكتاب- مثلًا، بل عدل إلى ما عرف أنه ذكره سبحانه ليكون أفخم لشأنه، وزاده فخامة بصرف القول عن الوصف المقتضي للإحسان إلى الاسم الجامع للجلال والإكرام.
ولما كان ما ذكر من الآثار عجبًا، دل على عظمته بقوله على طريق الاستنتاج: {ذلك} أي الأمر العظيم الغريب من الحديث المنزل والقبض والبسط {هدى الله} أي الذي لا يتمنع عليه شيء {يهدي به من يشاء} ومن هداه الله فما له من مضل، ويضل به من يشاء فلا تتأثر جلودهم لقساوة قلوبهم، فيكون هدى لناس ضلالًا لآخرين {ومن يضلل الله} أي الملك الأعظم المحيط بكل شيء إضلالًا راسخًا في قلبه بما أشعر به الفك ليخرج الضلال العارض {فما له من هاد} لأنه لا راد لأمره ولا معقب لحكمه، لأنه الواحد في ملكه، فلا شريك له، فالآية من الاحتباك: ذكر أولًا إطلاق أمره في الهداية دليلًا على حذف مثله في الضلال، وثانيًا انسداد باب الهداية على من أضله دليلًا على وحذف مثله فيمن هداه وهي دامغة للقدرية. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ} اعلم أنه تعالى لما وصف الآخرة بصفات توجب الرغبة العظيمة لأولي الألباب فيها وصف الدنيا بصفة توجب اشتداد النفرة عنها، وذلك أنه تعالى بين أنه أنزل من السماء ماء وهو المطر وقيل كل ما كان في الأرض فهو من السماء، ثم إنه تعالى ينزله إلى بعض المواضع ثم يقسمه فيسلكه ينابيع في الأرض، أي فيدخله وينظمه ينابيع في الأرض عيونًا، ومسالك ومجاري كالعروق في الأجسام، يخرج به زرعًا مختلفًا ألوانه من خضرة وحمرة وصفرة وبياض وغير ذلك، أو مختلفًا أصنافه من بر وشعير وسمسم ثم يهيج، وذلك لأنه إذا تم جفافه جاز له أن ينفصل عن منابته، وإن لم تتفرق أجزاؤه، فتلك الأجزاء كأنها هاجت لأن تتفرق ثم يصير حطامًا يابسًا {إِنَّ في ذَلِكَ لذكرى} يعني أن من شاهد هذه الأحوال في النبات علم أن أحوال الحيوان والإنسان كذلك وأنه وإن طال عمره فلابد له من الانتهاء إلى أن يصير مصفر اللون منحطم الأعضاء والأجزاء، ثم تكون عاقبته الموت.
فإذا كانت مشاهدة هذه الأحوال في النبات تذكره حصول مثل هذه الأحوال في نفسه وفي حياته، فحينئذ تعظم نفرته في الدنيا وطيباتها.
والحاصل أنه تعالى في الآيات المتقدمة ذكر ما يقوي الرغبة في الآخرة، وذكر في هذه الآية ما يقوي النفرة عن الدنيا، فشرح صفات القيامة يقوي الرغبة في طاعة الله، وشرح صفات الدنيا يقوي النفرة عن الدنيا، وإنما قدم الترغيب في الآخرة على التنفير عن الدنيا، لأن الترغيب في الآخرة مقصود بالذات، والتنفير عن الدنيا مقصود بالعرض، والمقصود بالذات مقدم على المقصود بالعرض، فهذا تمام الكلام في تفسير الآية، بقي هاهنا ما يتعلق بالبحث عن الألفاظ، قال الواحدي: والينابيع جمع ينبوع وهو يفعول من نبع ينبع يقال نبع الماء ينبع وينبع وينبع ثلاث لغات ذكرها الكسائي والفراء، وقوله: {يَنَابِيعَ} نصب بحذف الخافض لأن التقدير فسلكه في ينابيع ثم يهيج أي يخضر، والحطام ما يجف ويتفتت ويكسر من النبت.
{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
اعلم أنه تعالى لما بالغ في تقرير البيانات الدالة على وجوب الإقبال على طاعة الله تعالى ووجوب الإعراض عن الدنيا بين بعد ذلك أن الانتفاع بهذه البيانات لا يكمل إلا إذا شرح الله الصدور ونور القلوب فقال: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلام فَهُوَ على نُورٍ مّن رَّبّهِ}.
واعلم أنا بالغنا في سورة الأنعام في تفسير قوله: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام} [الأنعام: 125] في تفسير شرح الصدر وفي تفسير الهداية، ولا بأس بإعادة كلام قليل ههنا، فنقول إنه تعالى خلق جواهر النفوس مختلفة بالماهية فبعضها خيرة نورانية شريفة مائلة إلى الإلهيات عظيمة الرغبة في الاتصال بالروحانيات، وبعضها نذلة كدرة خسيسة مائلة إلى الجسمانيات وفي هذا التفاوت أمر حاصل في جواهر النفوس البشرية، والاستقراء يدل على أن الأمر كذلك، إذا عرفت هذا فنقول المراد بشرح الصدر هو ذلك الاستعداد الشديد الموجود في فطرة النفس، وإذا كان ذلك الاستعداد الشديد حاصلًا كفى خروج تلك الحالة من القوة إلى الفعل بأدنى سبب، مثل الكبريت الذي يشتعل بأدنى نار، أما إذا كانت النفس بعيدة عن قبول هذه الجلايا القدسية والأحوال الروحانية، بل كانت مستغرقة في طلب الجسمانيات قليلة التأثر عن الأحوال المناسبة للإلهيات فكانت قاسية كدرة ظلمانية، وكلما كان إيراد الدلائل اليقينية والبراهين الباهرة عليها أكثر كانت قسوتها وظلمتها أقل.
إذا عرفت هذه القاعدة فنقول.
أما شرح الصدر فهو ما ذكرناه، وأما النور فهو عبارة عن الهداية والمعرفة، وما لم يحصل شرح الصدر أولا لم يحصل النور ثانيًا، وإذا كان الحاصل هو القوة النفسانية لم يحصل الانتفاع ألبتة بسماع الدلائل، وربما صار سماع الدلائل سببًا لزيادة القسوة ولشدة النفرة فهذه أصول يقينية يجب أن تكون معلومة عند الإنسان حتى يمكنه الوقوف على معاني هذه الآيات، أما استدلال أصحابنا في مسألة الجبر والقدر وكلام الخصوم عليه فقد تقدم هناك، والله أعلم.
المسألة الثانية:
من محذوف الخبر كما في قوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} [الزمر: 9] والتقدير: أفمن شرح الله صدره للإسلام فاهتدى كمن طبع على قلبه فلم يهتد لقسوته، والجواب متروك لأن الكلام المذكور دل عليه وهو قوله تعالى: {فَوَيْلٌ للقاسية قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ الله}.
المسألة الثالثة:
قوله: {فَوَيْلٌ للقاسية قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ الله} فيه سؤال، وهو أن ذكر الله سبب لحصول النور والهداية وزيادة الاطمئنان كما قال: {أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} [الرعد: 28] فكيف جعله في هذه الآية سببًا لحصول قسوة القلب، والجواب أن نقول إن النفس إذا كانت خبيثة الجوهر كدرة العنصر بعيدة عن مناسبة الروحانيات شديدة الميل إلى الطبائع البهيمية والأخلاق الذميمة، فإن سماعها لذكر الله يزيدها قسوة وكدورة، وتقرير هذا الكلام بالأمثلة فإن الفاعل الواحد تختلف أفعاله بحسب اختلاف القوابل كنور الشمس يسود وجه القصار ويبيض ثوبه، وحرارة الشمس تلين الشمع وتعقد الملح، وقد نرى إنسانًا واحدًا يذكر كلامًا واحدًا في مجلس واحد فيستطيبه واحد ويستكرهه غيره، وما ذاك إلا ما ذكرناه من اختلاف جواهر النفوس، ومن اختلاف أحوال تلك النفوس، ولما نزل قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طِينٍ} وكان قد حضر هناك عمر بن الخطاب وإنسان آخر فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى: {ثم أنشأناه خلقًا آخر} قال كل واحد منهم {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 12 14] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اكتب فهكذا أنزلت» فازداد عمر إيمانًا على إيمان وازداد ذلك الإنسان كفرًا على كفر، إذا عرفت هذا لم يبعد أيضًا أن يكون ذكر الله يوجب النور والهداية والاطمئنان في النفوس الطاهرة الروحانية، ويوجب القسوة والبعد عن الحق في النفوس الخبيثة الشيطانية، إذا عرفت هذا فنقول إن رأس الأدوية التي تفيد الصحة الروحانية ورئيسها هو ذكر الله تعالى، فإذا اتفق لبعض النفوس أن صار ذكر الله تعالى سببًا لازدياد مرضها كان مرض تلك النفس مرضًا لا يرجى زواله ولا يتوقع علاجه وكانت في نهاية الشر والرداءة، فلهذا المعنى قال تعالى: {فَوَيْلٌ للقاسية قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ الله أُوْلَئِكَ في ضلال مُّبِينٍ} وهذا كلام كامل محقق، ولما بين تعالى ذلك أردفه بما يدل على أن القرآن سبب لحصول النور والشفاء والهداية وزيادة الاطمئنان، والمقصود منه بيان أن القرآن لما كان موصوفًا بهذه الصفات، ثم إنه في حق ذلك الإنسان صار سببًا لمزيد القسوة دل ذلك على أن جوهر تلك النفس قد بلغ في الرداءة والخساسة إلى أقصى الغايات، فنقول إنه تعالى وصف القرآن بأنواع من صفات الكمال.
الصفة الأولى: قوله تعالى: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
القائلون بحدوث القرآن احتجوا بهذه الآية من وجوه: الأول: أنه تعالى وصفه بكونه حديثًا في هذه الآيات وفي آيات أخرى منها قوله تعالى: {فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ} [الطور: 34] ومنها قوله تعالى: {أفبهذا الحديث أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ} [الواقعة: 81] والحديث لابد وأن يكون حادثًا، قالوا بل الحديث أقوى في الدلالة على الحدوث من الحادث لأنه يصح أن يقال هذا حديث وليس بعتيق، وهذا عتيق وليس بحادث، فثبت أن الحديث هو الذي يكون قريب العهد بالحديث، وسمي الحديث حديثًا لأنه مؤلف من الحروف والكلمات، وتلك الحروف والكلمات تحدث حالا فحالا وساعة فساعة، فهذا تمام تقرير هذا الوجه.
أما الوجه الثاني: في بيان استدلال القوم أن قالوا: إنه تعالى وصفه بأنه نزله والمنزل يكون في محل تصرف الغير.
وما يكون كذلك فهو محدث وحادث.
وأما الوجه الثالث: في بيان استدلال القوم أن قالوا: إن قوله أحسن الحديث يقتضي أن يكون هو من جنس سائر الأحاديث كما أن قوله زيد أفضل الإخوة يقتضي أن يكون زيد مشاركًا لأولئك الأقوام في صفة الأخوة ويكون من جنسهم، فثبت أن القرآن من جنس سائر الأحاديث، ولما كان سائر الأحاديث حادثة وجب أيضًا أن يكون القرآن حادثًا.
أما الوجه الرابع: في الاستدلال أن قالوا: إنه تعالى وصفه بكونه كتابًا والكتاب مشتق من الكتبة وهي الاجتماع، وهذا يدل على أنه مجموع جامع ومحل تصرف متصرف.